الأرشفة التحرّرية في الأفضية المُتاحة

يمان طعمة

الأرشفة بمعناها التجريدي هي فعل الحفاظ على القديم من خلال أماكن تتيح للجديد أن ينظر إليها. هي النظر إلى الوراء لمعرفة ماذا حدث، لاتضاح الرؤية والبناء عليها والتعامل مع الحاضر. هي توثيق كل ما هو موجود بعيداً عن مفاهيم الجمال والقبح وموازين القوى. هي عملٌ تحرّريٌ في أصله لإتاحته تأصيل وجود المستضعفين الذين لم يُعط لهم الوجود المستحق في الذاكرة الجمعية. هي فعل التخلية والتزكية عبر رؤية الواقع كما هو بعنفه الوحشي وجماله المتأصل وحقيقته العارية. هي في أصلها الوضوح الكامل مع الوعي الجمعي دون مناورةٍ أو تخفيف. هي توثيق سرد الروايات من أصحابها دون تجزئة أو نقصان. هي محاولة رسم صورة كاملة عن الماضي لمعرفة الذات الجماعية ومحاسبتها والبناء عليها. هي الأساس المتين لإيجاد وعي متجذّر في الأصالة مع طموح لقيام مسارات أكثر تقدمية وعدالة.

لكن في الواقع، قد تأخذ الأرشفة شكل موازين القوى الموجودة، فقد شرح ذلك المؤرّخ هاورد زِن (Howard Zinn) في خطابه سنة 1970 مع مجتمع المؤرشفين الأمريكيين في اجتماعهم السنوي، فقال أنّ العناصر الأقوى والأغنى في المجتمع لها الفرص الأكبر لإيجاد وثائقها والحفاظ عليها وتقرير ما هو متاح للعامة. ثم أضاف البروفيسور في التاريخ راندل جمرسُن (Randall Jimerson) سنة 2007 أنّ المؤرشفين بإمكانهم استخدام قوّة الأرشيف في الترويج للمحاسبة والتعددية والعدالة الاجتماعية لأنهم يعملون على تشكيل السجلّات التاريخية، وهو عملٌ له وزنه الأخلاقي المهم.

إنّ الذي أرغم الأرشيفات التقليدية على التماهي مع التهميش ومحو المجتمعات غير المتمثّلة في التاريخ الجمعي هو اختلال الموازين والظلم والاضطهاد في النُظم العامة. يعتمد الحفاظ على الأرشيفات ومستنداتها وسجلّاتها بشكل متزايد على تراتبية توزّع الثروة والسلطة في المجتمع، فتبقى السرديات المهيمنة هي السرديات الأقوى في المجتمع، فنسمع قصص الأغنياء دون الفقراء، والرجال دون النساء، والبيض دون السود. لذلك فإنّ من شروط جعل الأرشيف ذي مصدر مفتوح ومتاح للجميع هو بناؤه ضمن عمل إصلاحي يعترف باختلال موازين التمثيل في السرديات الجماعية ويعمل بشكلٍ واعٍ على جلب واستخدام السرديات المُضطهَدة تاريخياً بشكل يناهض تلك السرديات ذات الطابع الاستعماري. ففي سنة 2016، أجرت مؤسسة نيلسون مانديلا (Nelson Mandela Foundation) حواراً لمدّة أسبوعين مع العاملين في مجال الذاكرة من تسع دول مختلفة عن كيفية العمل بهذا المجال من منطلقات تحررية، فكانت النتيجة أن الذاكرة لا تنحصر في تذكّر الماضي فحسب، بل محاسبته أيضاً من خلال تحديد الوقائع والاعتذار عنها ومحاولة إصلاح الأضرار التي حدثت، وبهكذا تكون حقاً متاحة للجميع.

تُستهدف الأرشيفات في الحروب لأهمية الذاكرة الجمعية في تأصيل وجود الجماعات المضطّهَدة، وكذلك قد يساهم المؤرشفون في نفس مسار أعمال العنف عبر تعزيز السرديات النخبوية مقابل إقصاء السرديات المضطّهَدة، فالأرشفة في حد ذاتها عملية انتقاء المواد التي يجب تخليدها مقابل المواد التي يتمُّ تلفها، فنخلّد قصصاً دون أخرى لتشكيل الوعي الحديث، والمُشرف على هذا العمل هو صاحب القرار، وهو الذي يُوازي فِعْلَته أعمال عنف الحروب والديكتاتوريات لأنّه يُعزّز وجوداً معيّن دون آخر. لذلك فإنّ المسار الذي يجب سلكه لجعل الأرشيفات متاحة للجميع هو العمل الأرشيفي الإصلاحي الذي يسعى لأن يتعامل بشكلٍ واعٍ وصريح مع السرديات الإمبريالية والعنصرية والذكورية وغيرها من مظاهر الاضطهاد، ويعترف بوجودها الكاسح في الوعي الجمعي ويحاربها من منطلق أخلاقي يجب تكريسه في العمل الأرشيفي التقليدي، وذلك من خلال نموذج متكامل يُعيد الملكية للشعوب المُستعمَرة والمُضطهَدة ويستخدم الموارد المجتمعية في الدفع نحو محاربة السرديات التي تعزل المضطهدين وتضعهم في خانة “الآخر” المعزولة والمهمّشة. ينتج عن غياب هذا العمل الإصلاحي عنفٌ يتعدى حدود المؤسسات الأكاديمية، ويصل إلى الوعي الجمعي لمفاهيم ارتباط المضطهدين وآلامهم بالحاضر. كما يتبلور هذا العنف بأشكال مختلفة، فيُقصى المجتمع عن تاريخه، وبالتالي يُعاد إنتاج أشكال الاضطهاد دون القيام بفعل التخلية والتحلية التي يُفترض أن تقوم الأرشفة بها.

إنّ أساس التقدمية هو التعامل مع الواقع بشموليته دون إقصاء أو تجميل، والنظر إلى تاريخ البلاد بكامل وحشيته وجماله دون محاولة لتمييع أو تخفيف من أحداثه وأثره العنيف المستمر على بعض شرائح المجتمع، وبذلك يراجع الوعي الجمعي نفسه وآثامه وتتم المعالجة بما يخدم الجميع، دون استثناء أو تفضيل، وبشكلٍ أكثر تقدمية وعدالة.

لذلك فإنّ من شروط جعل الأرشيف ذي مصدر مفتوح ومتاح للجميع هو بناؤه ضمن عمل إصلاحي يعترف باختلال موازين التمثيل في السرديات الجماعية ويعمل بشكلٍ واعٍ على جلب واستخدام السرديات المُضطهَدة تاريخياً بشكل يناهض تلك السرديات ذات الطابع الاستعماري.

إنّ الأرشفة هي الرغبة الدائمة والمتكررة بالرجوع إلى الأصل وبالعودة إلى الأماكن القديمة وإلى البداية المطلقة. أمّا جاريت دريك (Jarrett Drake)، المؤرشف الرقمي السابق في جامعة برينستون (Princeton University), فقد ذكر في كلمته في منتدى الأرشيف المجتمعي الذي أقامته جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس (UCLA) سنة 2016 أنّ الأرشيف التحرري يجمع فعلَي الانتماء والإيمان، وهما اثنان من المُحرّكات الأساسية للروح الإنسانية. كما يملك الأرشيف التحرري إمكانية العمل ضمن مجتمعات غير مُعترف بها من قبل الأرشيفات التقليدية. ويضيف دريك أنّ المؤرشفين يعلمون علماً واضحاً ارتباط عملهم بالسياقات المختلفة للنُظم المُتصلّة بفعل الأرشفة والدوافع الكامنة ضمن المؤسسات المُمَوّلة والأعراف المتواجدة ضمن المجتمع الأوسع.

لذلك، تكمن عملية التداوي بين الأرشيفات التقليدية والمجتمعات غير المُتمثّلة تاريخياً في تنوّع السجلّات والمستندات بشكل يحتوي تعددية المجتمع والتاريخ. كما يُنصح بجعل الأرشيفات مُتاحةً للجميع وتسهيل الوصول إليها عبر تشجيع التواصل بين العاملين بالأرشيف والمجتمعات عامةً، وبذلك نحصل على الوضوح الأوسع في الوعي الجمعي. إنّ أرشفة سرديات المضطَهَدين لن تُجدي نفعاً إذا بقيت في أبراج بعيدةً عن الناس، وبالتالي إنّ ارتباط العلم بواقع المجتمعات وحاضرهم سينتج عنه ثقافة انتماء ووعي، وقدرة على نقد وتحليل التاريخ، ومن الأمثلة المهمة على ذلك المعرض التشكيلي العالمي من أجل فلسطين الذي أقامه قسم الفنون التشكيلية والإعلام الموحد في منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1978 في جامعة بيروت العربية، والذي أرادت المنظمة من خلاله تعزيز الهوية الفلسطينية وحمايتها عبر تخليدها في الفن في حال اندثارها في حالة الحرب وإشكالاته، ومن خلال الإبداع يمكن للفلسطيني أن يُعيد سرد روايته خارج أُطر الانهزامية والشفقة، بل من موقع قوّة. كما أتاح المعرض المجال للفنانين من الفئات المضطهدة الأخرى، ومن الذين يتشاركون نفس الرؤى السياسية المعادية للإمبريالية، التضامن مع القضية الفلسطينية من خلال أعمالهم. منهم فنانون يساريون لجؤوا إلى فرنسا هروباً من نُظمهم الديكتاتورية في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي واليونان والبرتغال وإسبانيا، ونتج عن هذا التعاون تأسيس شبكة بين الفنانين المهتمّين بإنشاء متاحف في المهجر، يتبادلون من خلالها الموارد والمعرفة المرتبطة تمام الارتباط بالصراعات السياسية، وبالتالي رأينا نشاطاً سياسياً وثقافياً تشاركياً غير اعتيادي وخارج النمط العام المرتبط بالسوق التقليدي. نلفت النظر أنّ التضامن العالمي المعتاد يُدعم عادةً من الأنظمة السياسية الحاكمة، عكس الشبكات الشعبية التضامنية المرتبطة بالعمل السياسي التي تشجّع على إنتاج الفن والثقافة النقدية والمتأصّلة في الواقع. 

إنّ رقمنة الأرشيفات التي تقوم بها المؤسسات الثقافية الغربية ضمن القيم الغربية قد تحمل نفس الإطار الاستعماري الموجود في العالم المادي.

مثالٌ آخر هو أرشيف التصميم العربي الذي يسعى إلى إتاحة مساحاتٍ أكثر عدالة ومفتوحة للجميع، فالتصميم العربي مساحة غير مُكتشفة بسبب غياب الآليات الفعّالة في توثيق تاريخ الفن العربي والرائدين فيه. وقد عثر الأرشيف من خلال أبحاثه على أعمال المصممة المصرية سميحة حسنين التي رغم ريادتها في تصميم الأغلفة العربية، إلّا أنّ وجودها غائبٌ تماماً في المنصات الرقمية والمادية. فبالإضافة إلى غياب توثيق المصممين الروّاد العرب، نجد الغياب النسائي مُتعمّق أكثر رغم غزارة أعمالهن المُنتجة. فقد انضمّت سميحة حسنين إلى دار الهلال عام 1947 وعملت هناك لمدّة نصف قرن على تصميم مجموعاتٍ واسعةٍ من أغلفة الكتب والرّسومات التّوضيحيّة، ويتضّح من خلال أعمالها أسلوباً واضحاً يتمثّل في استخدام الأشكال الهندسية وكيفية تطوّره عبر السنين، وقد لقّبتها الكاتبة والناقدة صافي ناز كاظم بـ “ملكة تصميم الغلاف العربي”. إلا أنه ما زال هناك غياب واضح وشحّ عميق في توثيق التاريخ العربي الفني والثقافي واستخدامه ضمن أُطرٍ نقديّة بنّاءة تساعد على معرفته بوضوح، ومعرفة علاقته بالسياقات الزمنية والجغرافية المختلفة، ومعرفة العلاقات التشاركية المنبثقة بين الدول على فترات متعددة. وندرك تمام الإدراك تقاطعية النُظم المضطهدة بهذا الواقع، بدءاً من الاستعمار إلى النُظم الأبوية وما تحتويها. فتبقى أعمال المستضعفين غير مُسلّط الضوء عليها، وتبقى آثار الاستعمار المُتجذّرة في نُظُمنا العربية تُروّج للاغتراب عن الذات واللجوء إلى المصادر الغربية بدلاً من خلق وجمع مصادرنا الخاصة. إضافةً إلى ذلك، هناك غيابٍ تامٍ لأيِّ رؤيةٍ تقدميةٍ في تشكيل وتأصيل الهوية الجمعية المحلية والعربية ضمن أُطُرٍ عادلة تُعطي شراكةً للجميع.

ولا يمكننا التحدّث عن الأرشفة وجعلها ذات مصدر مفتوح متشابك مع الواقع دون الحديث عن الرقمنة والثقافة الرقمية والتراتبية المتداخلة فيها. إنّ وجودنا متعدد الأبعاد متشابك بين الافتراض والواقع، وهو ما يجعل العالم الرقمي بنفس أهمية العالم المادي ويجب أن ننظر إليه من نفس سُلّم الأولويات ومن نفس منظور النُظم الموجودة في العالم المادي، فهو يعكس نفس سلّم التراتبية في الثروة والسلطة ولا يمكن فصله. وقد اتضح ذلك بشكلٍ واضحٍ في القضية الفلسطينية في الآونة الأخيرة، حيث استطعنا سماع سُكّان حي الشيخ جرّاح في القُدس خارج أسوار هياكل الإعلام التقليدية، واستطاع الناس الحصول على المعلومة من المصدر المباشر ممّا خلق حالة تعاطف شعبية عالمية شهدناها في معظم مدن العالم. وكان لذلك تأثير واضح على القرار السياسي ومفاعيله على الأرض في فلسطين، وقُوبلت تلك التحرّكات الرقمية بالكثير من الحجب من قبل مواقع التواصل الاجتماعي، ممّا يُظهر بشكلٍ واضحٍ أن تراتبية السُلطة في العالم المادي تُعكس تماماً في العالم الرقمي.

إنّ رقمنة الأرشيفات التي تقوم بها المؤسسات الثقافية الغربية ضمن القيم الغربية قد تحمل نفس الإطار الاستعماري الموجود في العالم المادي. لذلك من المهم تحديد الملكية الثقافية ضمن الإطار الرقمي وتحديد المفهوم الواضح لما هو حقاً “متاح” للجميع ومن يملك أحقية القرار في جعل الأرشيف متاحاً للناس ولأيّة غايات. فتُعدّ الرقمنة البطيئة من الأساليب المُلبّية في ذلك الإطار، إذ تتساوى أهمية تقييم من يملك أحقية القيام بتلك العملية وسلّم النظم القيمية التي يحملها بقدر أولوية عملية الرقمنة ذاتها. علينا، ومن خلال العمل التشاركي، التمعّن في الغايات وراء الرقمنة المنظمة وخدماتها، وبمدى دقّتها في خدمة المجتمعات الأصلية تاريخياً وجغرافياً لأنّ الهدف من جعل الأرشيفات مفتوحة هو جعل العالم أكثر عدالة، حيث يُتيح للمستضعفين والمضطهدين إعادة تنظيم السرديات، وبالتالي بناء عالم يُتيح المجال للتواصل الصحّي الذي يقوّم مسار الأرشفة المنحازة وغير الموضوعية، ويبني مسارات أكثر إنصافاً وتشاركية.

يجب أن يبقى العمل الأرشيفي دائم التساؤل عن الغايات والمُبرّرات، وأن يبقى ساعياً بشكلٍ واعٍ لإعادة تقويم السرديات بما هو عادلٌ للفئات المُهمّشة التي غُيّبت عن السرديات الجماعية لخدمة أصحاب السلطة والثروة. وبذلك تكون الأرشيفات حقاً متاحة للجميع، غير محصورة في أبراج نخبوية أو استعمارية ولها المقدرة على إعادة بلورة أرضية للتشابك وبناء موروث ثقافي وهويّاتي تقدمي يخدم الواقع ومجريات حاجياته.  

يمان طعمة مصممة بصرية حائزة على شهادة البكالوريوس بالتصميم البصري من الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU). تعمل كباحثة مساعدة مع “أرشيف تصميم الغلاف العربي”، وهو أرشيف يسعى لأن يكون مصدراً بصرياً غنيّاً للباحثين والمصمّمين. تهتم يمان بالثقافة العربية، واللغة بشكل خاص، وتعمل بشكل دائم على البحث في أبعاد الهويّة وتاريخها. تعاونت مؤخراً مع مؤسسة بروتوسينما (Protocinema organization) في نيويورك، حيث عرضت عملها الأخير “غياب” الذي يغطي موضوع التهجير القسري في المنطقة العربية وترابطه مع الشعوب والسرديات المتكررة عبر التاريخ. تسعى يمان، من خلال أعمالها، لجلب ما يُعزّز أصالة وتقدّم للهوية المحليّة ضمن نُظمٍ أكثر عدالة.